لا تبدو إسرائيل في وارد وقف الحرب في غزة قبل استنفاد أهدافها. وفي اعتقاد بنيامين نتنياهو وأركانه، أنّ ما يتلقّونه من دعم غربي غير المسبوق سيمنحهم فرصة «تاريخية» لتصفية القضية الفلسطينية. ولطالما انتظر الإسرائيليون ذريعة للاستفراد بقطاع غزة وتغيير واقعه السياسي والأمني والجغرافي والديموغرافي، باعتباره الحلقة الأخيرة من المخطّط القديم، المرسوم لتصفية القضية الفلسطينية.
كانت الضربة التي سدَّدتها «حماس» للإسرائيليين في غزة، يوم 7 تشرين الأول، هائلة عسكرياً ولا سابق لها. ولكن، في مقابل فشلها الأمني والعسكري، كان لافتاً أنّ إسرائيل استثمرت الحدث دعائياً بشكل بارع. وثمة مؤشرات إلى أنّها تعمّدت تضخيم الخسائر في صفوف المدنيين، بشكل غير مسبوق أيضاً.
أعادت إسرائيل إلى الغربيين محرقة أدولف هتلر لليهود، ووزعت معلوماتٍ مغلوطة عن قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين وانتهاك كرامة النساء. ووقع الرئيس جو بايدن في خطأ تبنّي هذه المعلومات، قبل أن يعلن البيت الأبيض تبرؤه منها، باعتبارها أخباراً غير مُسندة إلى مصادر موثوق فيها.
بل إنّ بعض المحللين يطرح أسئلة عمّا إذا كان عدد الـ 1400 قتيل إسرائيلي صحيحاً أو جرى تضخيمه في سياق خطة الاستثمار السياسي. ففي الواقع، لا قدرة للإعلام المحايد على كشف العدد الصحيح. وهذا التضخيم يمكن تثميره لتبرير خطوات دراماتيكية تحضِّر إسرائيل لتنفيذها في غزة، بعضها بات معلناً وبعضها الآخر قيد الكتمان.
فعلى رغم مرور 10 أيام من ضربة «حماس»، ما زال الإسرائيليون يؤخّرون عمليتهم في غزة، ويرفعون لهجة التهديد. والهدف هو تخويف المدنيين ودفعهم للمضي في أكبر عملية نزوح من شمال القطاع إلى جنوبه ومعبر رفح.
وحتى اليوم، نجح الإسرائيليون في تهجير أكثر من 600 ألف فلسطيني، أي نحو 30% من السكان، قبل إطلاق عمليتهم البرية. وتستمر ضغوطهم للوصول إلى رقم المليون نازح، أي قرابة نصف سكان غزة (2.2 مليون نسمة)، ما يجعل المناطق الشمالية من القطاع شبه فارغة.
ويعتقد خبراء أنّ إسرائيل ستطبّق في عمليتها البرية قاعدة «الأرض المحروقة»، وستمهّد لها بقصف جوي مركّز، وستستخدم قنابل متطورة لتدمير شبكات الأنفاق الشديدة التعقيد هناك. ومن شأن هذا النزوح السكاني أن يتيح لها تقليص عدد الضحايا المدنيين. كما أنّه سيؤدي إلى إحداث التغيير الديموغرافي المنشود في القطاع، بإفراغه من نصف سكانه تقريباً، بدفعهم إلى سيناء عن طريق معبر رفح.
وهذا الجانب، الديموغرافي، يفوق بأهميته الجانب الأمني، أي إنهاء «حماس»، بالنسبة إلى إسرائيل. فهو يصبّ مباشرة في الخطة التي ترمي إلى تنفيذها، منذ ربع قرن على الأقل، والهادفة إلى محو الهوية الوطنية الفلسطينية تماماً.
وتقضي الخطة ببعثرة الفلسطينيين في دول الشتات ودمج الآخرين في مجتمعات البلدان المحيطة، مصر والأردن ولبنان وسوريا، وقضم مستوطنات الضفة نهائياً وتهويد القدس.
لكن المهمّ في ما يجري اليوم هو أنّ الخطة تقضي بخلق «شبه دولة» فلسطينية بين قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء. وهذا هو السبب في إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في لقائه مع وزير خارجية واشنطن أنتوني بلينكن، معارضته لفتح معبر رفح لتدفق النازحين.
وتزامناً، كان لافتاً بث بعض وسائل الإعلام المصرية تسجيلاً صوتياً للرئيس الراحل حسني مبارك، يكشف فيه أنّ رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو طلب منه المساعدة في نقل سكان غزة إلى سيناء، لكن طلبه قوبل برفض شديد.
وفي المقابل، تتردّد معلومات، منذ سنوات، مفادها أنّ الرئيس الراحل محمد مرسي، عندما تولّى السلطة في أعقاب سقوط مبارك، عرض على «حماس» والرئيس الفلسطيني محمود عباس توسيع غزة بضمّ أراضٍ من سيناء إليها.
ولاحقاً، نُقل عن عباس قوله: «كان هناك تفكير أو اقتراح، من غيورا أيلاند (وهو مستشار سابق للأمن القومي ومسؤول عسكري له موقعه المؤثر في دائرة القرار في إسرائيل) يقضي بأن نأخذ من سيناء قطعة ونضيفها إلى غزة، فيعيش فيها الفلسطينيون ونبني الدولة الفلسطينية. لكن هذا الكلام هراء. فكيف أبني دولتي على حساب أرض مصر»؟
وأشار عباس إلى أنّ مرسي عرض عليه توسيع غزة بـ 1600 كيلومتر مربع. وأضاف: «قلتُ له إنّ هذا الكلام غير مقبول، وإنّ إسرائيل تريد أن تلقي بغزة في مصر، وهذا يخرب المشروع الوطني الفلسطيني. فلم يعجبه الكلام. وقال لي: هُمَّ كمْ عددهم في غزة؟ بنحطّهم في شبرا (أحد أحياء القاهرة)».
لكن فكرة نقل سكان القطاع، أو جزء كبير منهم، إلى بقعة في سيناء بقيت قيد التداول. ففي مطلع ربيع 2019، انكبَّت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على إعداد وثيقة «صفقة القرن» لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط.
ولم تعلَن بنود هذه «الصفقة» في شكل واضح، وقيل إنّ خمسة أشخاص فقط في الإدارة يمكنهم الوصول إليها كاملة، وهم ترامب وأربعة تولّوا إعدادها هم: مستشاراه جاريد كوشنير (صهره) وجيسون غرينبلات، والسفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان ومساعد كوشنير آفي بركويتس. ولذلك، بقيت المعلومات عنها متضاربة.
ولكن، في أيار 2019، نشرت صحيفة «إسرائيل اليوم» الإسرائيلية، بنوداً قالت إنّها من الوثيقة. وأبرز ما ورد فيها توقيع اتفاق ثلاثي بين إسرائيل ومنظمة التحرير و»حماس» على إقامة دولة بلا جيش تطلَق عليها تسمية «فلسطين الجديدة»، وتقوم على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة من دون المستوطنات، على أن تمنحها مصر أرضاً ليقوم عليها مطار ومصانع ومنشأت سياحية وزراعية، مقابل ثمن يُتفق عليه.
ويتحدث البعض عن عملية تبادل كبرى للأرض والسكان بين مصر وإسرائيل والفلسطينيين. فمساحة الأرض التي يُفترض أن تمنحها مصر لـ«فلسطين الجديدة» تقارب الـ 720 كيلومتراً مربعاً. ولتعويض مصر، تمنحها إسرائيل أرضاً مساوية بمساحتها في صحراء النقب، وادي فيران. وسيكون الإغراء الأكبر هو تحويل هذه المنطقة الفلسطينية- المصرية جنّةً تجذب المستثمرين لإقامة مشاريع ضخمة، بحيث يخرج السكان من حال الفقر وينصرفون إلى التخطيط للمستقبل بعيداً من الحروب.
ما يريده الإسرائيليون اليوم هو اقتناص الفرصة لتنفيذ هذه الخطة النائمة منذ نحو ربع قرن. لكن المسألة ليست سهلة. فحتى الآن، يرفض الرئيس المصري أي تلاعب بخريطة مصر، فيما ترفض القيادة الفلسطينية في رام الله أي انزلاق يقود إلى تصفية القضية.
لكن النار الإسرائيلية التي تقف على أبواب غزة قد تُبدّل في الكثير من المعطيات. وفي أي حال، إذا تغيَّرت حدود فلسطين التاريخية، فقد تتغيّر حدود الكثير من الكيانات في الشرق الأوسط. ونشوء «فلسطين الجديدة» سيعني حتماً نشوء «شرق أوسط جديد»، بخرائط جديدة.
*المصدر: الجمهورية